تأثير القصص الشعبية على قيم الأطفال وسلوكهم

تأثير القصص الشعبية على قيم الأطفال وسلوكهم

تأثير القصص الشعبية على قيم الأطفال وسلوكهم : عبر آلاف السنين، حملت القصص الشعبية بين طياتها جزءا من الهوية الثقافية والإنسانية لكل مجتمع، إنها ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل تشكل، في كثير من الأحيان، نافذة على الحكمة القديمة التي تعبر الأجيال. و بينما ينغمس الأطفال في هذه الحكايات الغنية بالرمزية، تتشكل في أذهانهم أولى ملامح فهمهم للعالم من حولهم، و يبدأون في استيعاب القيم الأساسية مثل الصدق، الشجاعة، والعمل الجماعي و غيرها من القيم السائدة.

       لكن القصص الشعبية ليست فقط عن الخير والشر، بل هي أكثر تعقيدا، إذ تتسرب معانيها إلى اللاوعي، لتشكل تدريجيا رؤية الطفل للقيم الأخلاقية والحياة. و في عالمنا الحديث، حيث تحل التكنولوجيا والوسائط الرقمية مكان السرد الشفهي، تظل القصص الشعبية رابطا قويا بين الماضي والحاضر، باعتبارها تراثا ثقافيا، حيث تبث في نفوس الأطفال شعورا بالانتماء إلى التراث الغني.

أولا : ما هي القصص الشعبية؟

        القصص الشعبية ليست مجرد سرد بسيط للأحداث؛ إنها تمثل خلاصة تجربة إنسانية متراكمة، تحمل في ثناياها دروسا و عبرا وأحكاما مستخلصة من الحياة اليومية ومن الأساطير القديمة. هذه القصص، التي تنتقل عبر الأجيال بالمشافهة، هي مزيج متوازن من الواقع والخيال، حيث تُستخدم الشخصيات الرمزية والأحداث الغريبة لنقل قيم المجتمع وتعليم الأجيال الجديدة، إذ إن تلقين القيم الإنسانية كان لا يتم إلا من خلالها.

        إن الأطفال الذين يتميزون بخيالهم الواسع، يجدون في هذا التراث الشفهي ملاذا للإبداع و التفكير، ورغم أن البعض قد يرى أن القصص الشعبية بسيطة أو قديمة الطراز، إلا أنها في الحقيقة تحتوي على مستويات متعددة و معقدة من المعاني، فهي تمثل وجها آخر للواقع، حيث تختبئ خلف الأحداث الظاهرة دروس تربوية تهدف إلى تعليم الأطفال القيم الأخلاقية والمهارات الاجتماعية لذاك المجتمع.

ثانيا : أهمية القصص الشعبية في التنشئة الاجتماعية

        تعد القصص الشعبية أداة فريدة في التنشئة الاجتماعية، فهي تخلق توازنا بين الترفيه والتربية، حيث يتعلم الأطفال من خلالها كيف يتعاملون مع مواقف الحياة المختلفة؛ فالأطفال بطبعهم ميالون إلى تقليد الشخصيات التي تعكس قيما مثل التعاون والشجاعة، ومن خلال سماع القصص التي تسلط الضوء على هذه الصفات، يبدأ الطفل في بناء أسس سلوكه الاجتماعي، و هو ما يعرف بالتعليم عبر القصص.

        كما أن القصص الشعبية تساعد الأطفال على تطوير مهارات اجتماعية مثل التفاوض وحل النزاعات و التواصل و حسن الإصغاء… و يتعلمون من الشخصيات كيفية التعامل مع التحديات والصراعات التي تواجههم، وبالتالي، لا تكون القصة مجرد ترفيه بل وسيلة لبناء شخصية الطفل و تمرير القيم و المعتقدات وتعزيز فهمه للعالم.

ثالثا : القيم الأخلاقية والسلوكيات المكتسبة من القصص الشعبية

        يحتوي سرد القصص الشعبية على رسائل تربوية عميقة، تساهم في تكوين الأخلاق والقيم لدى الطفل، فهي تعلمه أن الخير ينتصر دائما، وأن التحديات والصعوبات يمكن التغلب عليها بالصبر والمثابرة، فعلى سبيل المثال، في قصة “ليلى والذئب”، يتعلم الأطفال الحذر من الغرباء، في حين أن قصة “السلحفاة والأرنب” تعلمهم أن المثابرة تفوق السرعة في تحقيق النجاح و غيرهما من الأمثلة.

        إن القيم التي تُزرع من خلال القصص تتراكم مع مرور الوقت لتصبح جزءا من تصرفات الطفل وسلوكياته اليومية، فالأطفال يكتسبون من القصص القدرة على اتخاذ القرارات الأخلاقية والتمييز بين الصواب والخطأ.

رابعا : الجانب النفسي والتأثير العاطفي للقصص الشعبية

        القصص الشعبية ليست مجرد أدوات ترفيهية بسيطة، بل تحمل بداخلها قوة نفسية قادرة على التأثير العميق في وجدان الأطفال وتشكيل استجاباتهم العاطفية، من خلال تجسيد مجموعة متنوعة من المشاعر مثل الفرح، الحزن، الخوف، والأمل، تصبح القصص وسيلة فعالة لتعزيز الوعي العاطفي والذكاء الاجتماعي لدى الطفل.

       فعلى سبيل المثال، القصص التي تتناول موضوعات مثل الانتصار على الصعاب، كما في قصة “سندريلا” أو “بياض الثلج”، تُدخل الطفل في رحلة نفسية حيث يمر عبر مراحل متتالية من الحزن والألم ثم الفرح والنصر. هذه القصص تقدم رمزية للقدرة على تجاوز التحديات وتحقيق النجاح رغم العقبات، كما يُستمد منها شعور بالإيجابية والأمل، حيث تنقل رسالة واضحة أن الخير ينتصر في النهاية، وأن المعاناة، مهما كانت صعبة، يمكن أن تؤدي إلى نتائج إيجابية إذا  ما واجهناها بالشجاعة والصبر.

       إضافة إلى تعزيز التفاؤل والأمل، فإن القصص الشعبية تعمل أيضا على مساعدة الأطفال في استكشاف مشاعرهم والتعامل معها، فالخوف من الوحوش أو الأشباح التي تظهر في بعض القصص يعكس إلى حد كبير مخاوف الأطفال الداخلية، سواء من المجهول أو من التحديات التي قد يواجهونها في حياتهم اليومية، فعن طريق الاستماع إلى مثل هذه القصص، يمكن للأطفال تعلم أن هذه المخاوف طبيعية وأنه يمكن التغلب عليها من خلال التحليل الهادئ والمواجهة المتأنية.

       تُقدم القصص بذلك إطارا آمنا يمكن للطفل من خلاله استيعاب مشاعره والتعامل معها بطرق صحية و يكتسب من خلالها قيما مجتمعية بناءة.

      كما أن الجانب النفسي للقصص لا يتوقف عند الخوف فقط؛ فالأطفال يتعلمون أيضا من الشخصيات البطولية كيف يعبرون عن الشجاعة والثقة بالنفس، عندما يتابع الطفل مغامرة شخصية تواجه الأهوال، مثل مواجهة بطل قصة لشخصية شريرة أو التغلب على ظروف صعبة، يتعلم من هذه القصة أن المخاوف ليست نهاية الطريق، بل هي بداية للتحدي والبحث عن حلول، وهذه الدروس تُزرع في عقله وتظل ترافقه في حياته اليومية و تشجعه على التفاعل مع مشاعره وفهم كيفية التصرف بحكمة في مواجهة المواقف الصعبة.

       بالإضافة إلى ذلك، تسهم القصص الشعبية في تطوير ذكاء الأطفال العاطفي عبر إثارة مشاعر التعاطف مع الشخصيات، فحينما يرى الطفل بطلا يعاني أو شخصية تتعرض للظلم، يتولد داخله إحساس بالتعاطف والمشاركة الوجدانية، مما يعزز من قدرته على فهم مشاعر الآخرين وتقدير التحديات التي يواجهونها. هذا التدريب على التعاطف يُعد من الركائز الأساسية في بناء علاقات اجتماعية ناجحة في المستقبل، حيث يدرك الطفل أن مشاعره ليست الوحيدة وأن الآخرين أيضا يعيشون تجارب قد تكون مؤلمة أو مليئة بالتحديات.

      و بهذا الشكل، تُعد القصص الشعبية وسيلة نفسية قوية تمكن الأطفال من بناء عالمهم العاطفي بطريقة صحية، تشجعهم على التعامل مع المخاوف، والاحتفاظ بالأمل، وتقدير مشاعر الآخرين، كما تنمي قدراتهم على التفكير الإيجابي، مما يعزز من صحتهم النفسية واستقرارهم العاطفي.

خامسا : دور الأبوين في اختيار القصص المناسبة

تأثير القصص الشعبية على قيم الأطفال وسلوكهم

       يلعب الأهل دورا محوريا في توجيه أطفالهم نحو القصص التي تعزز القيم الإيجابية، فليس كل ما تحتويه القصص الشعبية مناسبا للأطفال في جميع الأعمار، فقد تحتوي بعضها على عناصر قد تكون غير ملائمة لصغار السن، لذا يجب على الأهل أن يكونوا واعين لما يناسب أطفالهم، وأن يكونوا قادرين على مناقشة القصص وتوضيح معانيها.

       من المهم أن يشارك الأهل في هذه العملية، ليس فقط كمن يروي القصة، بل كموجهين ومفسرين لما قد يخفيه النص من معاني تربوية أو تعليمية، وعندما يكون هناك تفاعل وحوار بين الأهل والطفل، تتحول القصة إلى وسيلة تعليمية فعالة.

سادسا : تحديات وتأثيرات سلبية محتملة

      على الرغم من فوائد القصص الشعبية، قد تحتوي بعض القصص على رسائل سلبية أو غير مناسبة للعصر الحالي، في بعض الأحيان، قد تتضمن القصص تمثيلات نمطية للجنسين أو تشجع على سلوكيات قاسية، لذلك، يجب على الأهل أن يكونوا على دراية تامة بمحتوى القصص التي يقدمونها لأطفالهم، وأن يكونوا مستعدين لتصحيح أي رسائل سلبية.

       كما أن بعض القصص قد تحتوي على عناصر تخويفية لا تناسب الأطفال الصغار، مثل الوحوش أو الأشباح، وهنا، يلعب الأهل دورا رئيسا في تهدئة مخاوف الأطفال وتوضيح الرموز الموجودة في القصص.

سابعا : أهمية الحوار بعد سرد القصص

      يعد الحوار بعد سرد القصص جزءا أساسيا من العملية التعليمية، فعندما ينخرط الأهل في مناقشة القصة مع أطفالهم، يعزز ذلك التفكير النقدي ويساعد الطفل على استيعاب القيم والمفاهيم بطريقة أعمق، من خلال هذا الحوار، يمكن للأهل أن يكتشفوا ما إذا كان الطفل قد فهم الرسالة الحقيقية للقصة أم لا.

      كما أن الحوار يفتح الباب أمام الأبوين لتعزيز القيم الإيجابية التي ترغب الأسرة في غرسها في الطفل، ويساعد على بناء علاقة قوية قائمة على التفاهم والثقة.

       على الرغم من أن القصص الشعبية لها دور كبير في تشكيل قيم الأطفال، إلا أنه من الضروري تقديم مزيج متوازن بين القصص القديمة والقصص الحديثة، فالقصص الحديثة تعكس قضايا العصر وتقدم نماذج جديدة تتماشى مع تحديات الحاضر، بينما تقدم القصص الشعبية عمقا تاريخيا وثقافيا يربط الطفل بماضيه وتراثه.

       إن التربية الجيدة تعتمد على تنوع المصادر، والقصص هي واحدة من هذه الأدوات الفعالة التي تساعد في بناء عقلية متوازنة تجمع بين الحكمة القديمة ورؤى العصر الحديث.

مقالات ذات صلة